Sunday, May 26, 2013

أصوات أفراس النهر في المحكمة الدستورية العليا






لا شك أن الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر كان لها تأثير مختلف على البلد عن أي إحتلال أو محاولة إحتلال أخرى .. أتت تلك الحملة إلى مصر بالمطبعة وبسببها تم فتح الباب للبعثات والمبتعثين إلى أوروبا والذين بعودتهم إلى مصر بعد ذلك ساهموا المساهمة الكبرى في تحديث مصر ونقلها نقلة حداثية نوعية وهو ما استمر وحرص عليه محمد علي باشا الذي أرسل البعثات إلى أوروبا وأتي بالفرنسيين والإنجليز لتكوين جيش مصر وطني مدرب تدريباً حديثاً ومختلفاً كلية عن إنكشارية العثمانيين 

وكان من أهم الآثار المترتبة على الحملة الفرنسية بقيادة نابوليون هو ترجمة جان فرانسوا شامبليون لحجر رشيد .. فكم من محاولات سبقته لفك طلاسم أولى الحضارات وأعظمها ولكن شامبليون كان الأنجح في تحويل تلك النقوش التي تزين المعابد الفرعونية إلى حروف وكلمات .. تلك النقوش التي مازالت تبهر الناظرين حتى من المصريين الذين يجهلون كل شيء عن لغتهم الأصيلة الأصلية  

ومن أهم ما نتج عن فك طلاسم اللغة المصرية القديمة تالياً لكتاب الموتى تلك البرديات التي تحكي قصص المصري القديم وأشعاره ومن أشهرها برديات الضابط الفرنسي سالييه والموجودة حالياً في المتحف البريطاني .. تحكي بردية سالييه الأولى عن وقت حكم الهكسوس لمصر قبل نحو 4000 عام أي ما يقرب من ألفي عام قبل ميلاد السيد المسيح وكيف كان الملك المصري سقنن رع يحكم مقاطعات الجنوب واستقر ملك الهكسوس أبوفيس في أواريس في الدلتا شمالاًحيث كانت تُجبى له الضرائب ويُؤتى بها من جميع أنحاء البلاد شمالاً وجنوباً 

يحكي مانيتون السمنودي المؤرخ المصري الشهير عن إحتلال الهكسوس لمصر فيما تبقى من أوراقه التي ضاعت معظمها وقت حريق مكتبة الإسكندرية ومما كتب مانيتون يتضح أن الهكسوس لم يندمجوا مع المصريين إلا في أقل الحدود فبرغم أنهم غزاة ولكنهم كرعاة كانوا أقل حضارة وتحضراً من الشعب الذي احتلوا أرضه .. ويذكر الجزء الموجود من بردية سالييه الأولى أن أبوفيس ملك الهكسوس أرسل رسولاً إلى الملك سقنن رع في طيبة يقول له أن أصوات أفراس النهر في طيبه تزعج نومه أي أبوفيس في قصره في منف وأن عليه أن يسكتها في تحرش واضح وإحتقار وإستفزاز للملك المصري الذي كتب عليه بعد ذلك أن يقود حرب التحرير حتى يُغتال ويكمل بعده إبنه أحمس ما بدأه والده المغدور ليصبح أحمس العظيم طارد الهكسوس ومحرر مصر 

أنا من المعتقدين أن التاريخ يعيد ويكرر نفسه بفجاجة .. ربما لأن البشر لا يقرأون التاريخ بما يكفي وربما لأنهم حتى عندما يقرأونه لا يتمعنون في فهم عظاته وعِبَره ليستفيدوا منها في واقعهم الحالي .. مهما قرب ذلك التاريخ وحتى لو كان عمر أحداثه ماتي عام أو حتى مجرد ستون عاماً .. التاريخ يستخف بنا ويكرر نفسه وأحداثه بأسماء ووجوه مختلفة

صدمني في الصباح تصريح أحد أعضاء حزب الوسط "وهو فرع من جماعة الإخوان المسلمين" بطلبه من رئيس الجمهورية استخدام نفوذه وطرح حل المحكمة الدستورية العليا حارسة الدستور وحاميته الأولى لاستفتاء شعبي وذلك بسبب أن المحكمة الموقرة قد أفتت بعدم دستورية منع أفراد المؤسسة العسكرية والشرطة المدنية من حق الإدلاء بأصواتهم في الإنتخابات .. محاربة اليمين المتطرف للمحكمة الدستورية العليا ليس بجديد .. منذ حصارها وقت كان منوطاً بها البت في دستورية تشكيل اللجنة التأسيسية البائسة التي كتبت دستور 2012 ومروراً بموقفها من اغتصاب سلطة التشريع لصالح الرئيس الإخواني وحتى اليوم في فتواها المتعلقة بحق الإنتخاب لمنتسبي الشرطة والجيش 

في دستور 71 كان النص يعتبر الإنتخاب حقاً للمواطنين يتم تنظيمه بقوانين ممارسة الحقوق السياسية ويختص بالمحكمة الدستورية العليا المصرية الإشراف اللاحق على القوانين ولم يحدث أن رُفع إليها اي اعتراض من منتسبي المؤسسة العسكرية أو الشرطة على إعفائهم من حق الإنتخاب سواء في الإنتخابات النيابية أو الرئاسية "عندما وُجدت" .. أما في نص دستور 2012 والذي دُبٍر بليل فالإنتخاب يُعتبر واجب على كل المواطنين وكذلك فقد اختص دستور 2012 المحكمة الدستورية العليا بالإشراف السابق على القوانين أي أنها لابد أن تبدي رأيها في مدى موافقة القوانين الصادرة من المُشرع للدستور قبل صدور تلك القوانين 

ما ذنب المحكمة الدستورية إذا ما كان من صاغوا مواد الدستور غافلون ؟ .. ما ذنب المحكمة الدستورية إذا ما كان من صاغوا مواد الدستور غير مؤهلين لما أنيط بهم من مهمة ؟ هل كتبت المحكمة الدستورية دستور الغرياني أم كتبته الجماعة والمتآمرين معها ؟ هل صاغت مواد الدستور المحكمة الدستورية أم صاغ تلك المواد مجموعة مختارة بعناية من الفرارجية وأصحاب الذقون الشعثاء وتلك كل مؤهلاتهم ؟ ما ذنب المحكمة الدستورية إذا كان من صاغوا الدستور لا يعرفون كيف ينفذوا ما صاغوه من مواد ولا يفهموا معنى ما سطروه من عبارات ؟

لن أنسى ما حييت منظر حصار مبنى الدستورية العليا المشابه لمعبد الأقصر على ضفاف نيل المعادي وقد مررت بهم ذات مساء فأفزعني وهالني ما رأيت .. أتفهم أن اليمين المتطرف القابض على الحكم في مصر هو عدو للحداثة في المطلق وأتفهم أنهم لديهم مشروع قد يجعلونه واقعاً قريباً باستبدال المحكمة الدستورية العليا بمجلس الحل والعقد الذي يشبه مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران .. ولكن هل يجرؤ اليمين المتطرف على مواجهة الناس بخططه لتغيير وجه مصر والعودة بها إلى عصور الظلام التي ربما لم تشهدها أبداً

هل يجرؤ اليمين المتطرف القابض على رقبة مصر أن يواجه الناس برجعيته وفاشيته صراحة بدلاً من أن يشكو من صوت أفراس النهر في الدستورية والتي يقض صوتها مضجع  أبوفيس القاطن في الإتحادية !؟ 





5 comments:

  1. ايه الابداع ده ؟ الله عليكي .. مقاله اكثر من رائعه

    ReplyDelete
  2. أشكرك يافندم .. سعيدة انها عجبتك :-)

    ReplyDelete
  3. يقض صوتها مضجع أبوفيس القاطن في الإتحادية ...ما شاء الله على تعبيرك وتشبيهك الرائع ..حقا انهم الهكسوس بعينهم

    ReplyDelete
  4. سلمت راسك ويداك

    ReplyDelete