Wednesday, January 23, 2013

الرمادي وألوان أخرى



الحياة بطبيعتها تحمل كل درجات الرمادي ولكن .. في بعض لحظات التاريخ تختفي كل الألوان وكل الدرجات ليظل فقط الأبيض والأسود نقيضي الإختيار .. وفي تلك اللحظات التاريخية الحاسمة الوقوف على الحياد جريمة وخيانة .. خيانة لوطن .. لقضية .. وربما لمبدأ .. تلك اللحظات لا تكون أبداً عن فريقين رياضيين يتنافسان في مسابقة وإنما عن تقرير مصير لا يحتمل التنازلات ولا الموائمات 

في السنتين الماضيتين مرت مصر بكثير من تلك اللحظات الفارقة .. ولعل أوضح مثال على المواقف الرمادية والمواقف ذات اللون الأحادي الواضح كانت فترة ظهور نائب رئيس الجمهورية السابق على الساحة كمرشح لرئاسة الجمهورية .. قبل ظهور النائب عمر سليمان على ساحة المنافسة كان الإعلام والنشطاء يسوقون للموائمة مع تيار الإسلام السياسي وكيف أنه فصيل وطني وماذا لو حكم مصر وأخذ فرصته في الحكم بعد ما ساهم إسهاماً واضحاً في اسقاط دولة يوليو بجمهوريتيها 

ظهر عمر سليمان في فبراير من العام الماضي بخطاب قوي واضح المعالم محدد الهوية وقال "أترشح لأنزع العمامة عن مصر" .. وكأن العقل الجمعي المصري لم يكن لينتبه قبلها لمشكلة الهوية المصرية وما قد يشكله الإسلام السياسي من خطر عليها وكونه بالأساس ضدها على طول الطريق .. استوعب الشارع المصري خطاب الرجل وفهمه وتعاطف معه بل وتبناه وأصبحت إن سألت عشرة أشخاص في الشارع من ستنتخب في انتخابات الرئاسة ؟ أجابك ثمانية منهم بسرعة .. عمر سليمان 

غاب سبب شعبية سليمان الحقيقي عن معظم السياسيين والإعلاميين والنشطاء خاصة من كانوا أدوات للإخوان في انقلابهم على النظام الجمهوري المصري في يناير 2011 .. لم يستوعبوا ولم يفهموا لماذا كان الرجل كاسح الشعبية بالشارع وظهرت التفسيرات الفضائية بأن الفلول يهولون من الأمر وأن الشعب كسيح خانع يبحث عن جلاد جديد وهكذا هم العبيد إلى آخره من التفسيرات الإنفعالية البعيدة عن المنطق والموضوعية وغاب عنهم -باختيارهم ربما- أهم سبب جعل المصريين يلتفون حول الرجل .. عمر سليمان لم يكن أبداً رمادياً ولم يقف أبداً على الحياد فقد قالها في السادس من فبراير 2011 على الملأ في لقائه التليفزيوني الشهير على قناة إيه بي سي الأميريكية .. التيار الإسلامي هو من يدفع بتلك الأحداث وهو من يقودها دافعاً بالشباب أمامه كغطاء .. تمسك الرجل بقناعته وتحليله وبنى خطابه عليه ولقي خطابه هذا قبولاً كبيراً لدى المصريين 

خرج سليمان من سباق الرئاسة فاتجهت الأنظار للدبلوماسي العتيد والوزير السابق عمرو موسى باحثة عن أمل في الحفاظ على وجه مصر التي يعرفونها فصدمهم الرجل برماديته وخطابه المائع .. حتى في مناظرته الشهيرة مع الإخواني عبد المنعم أبو الفتوح كان موسى أيضاً يبحث عن أرضية رمادية ليقف عليها .. بينما شفيق رئيس الوزراء الأسبق إلتقط الخيط الذي نسجه عمر سليمان فكان أكثر وضوحاً في مواقفه وخطابه بل وأكثر شجاعة من معظم السياسيين عندما أقر على الهواء في لقائه مع خيري رمضان بأنه ينتمي إلى الأيديولوجية الليبرالية وليس على عداء مع فكر العلمانية معطياً مثالاً بالنموذج التركي الذي طالما تغنى الإخوان به حتى استقبلوا رئيس وزراء تركيا وقت زيارته للقاهرة بهتافات "الخليفة أهوه" ليخرج هو ويقول أنا علماني متصوف فلا يجد من يودعه عند مغادرته 

خسر عمرو موسى الكثير برمادية خطابه ومثله أبو الفتوح الإخواني الليبرالي الإسلامي المدني المحافظ التقدمي الرجعي الحداثي الأصولي .. والذي جمع كل التوصيفات التي لا تجتمع في شخص أبداً متخيلاً أنه قد يعطي لكل مواطن الوجه الذي يريد فيجمع كل الأصوات .. رمادية أبو الفتوح خدعته ولم تخدمه .. في حين كان صباحي متمسكاً بخطابه الواضح عن القومية والعروبة والأفكار الناصرية الاشتراكية العتيدة وآمال وأحزان الغلابة وكان شفيق متمسكاً بخطابه الواضح عن الهوية المصرية ومصر التي يعرفها الجميع ولا يريدون تغيير وجهها بل يريدون التقدم بها إلى الأمام في ركب الحداثة والحضارة .. وبالطبع لجأ الإخوان إلى الوعود البراقة ودغدغة العواطف الدينية والكلام عن الصلاة والصوم وكونهما حلاً لكل مشاكل البلد دونما عمل وأضافوا بهاراتهم الحريفة من وعود ال 200 مليار دولار وأن مصر ستصبح الأغنى والأقوى والأعظم في عهدهم إذا ما حكموا بالإسلام وإذا ما نجحوا في تحجيب مصر وجعلها تعتنق الدين الإسلامي 

تجربة انتخابات الرئاسة خير دليل على أن في وقت تقرير المصير الرمادي لا يكون أبداً هو الاختيار .. الناس تريد الأبيض والأسود .. البعض سيختار الأبيض بكل راحة والبعض سيختار الأسود بكل اقتناع .. لكن لا مجال للرمادي .. ينعكس مثال تجربة انتخابات الرئاسة على واقعنا الحالي .. هناك من كون قناعة واضحة وارتاح إليها ولا يريد التنازل عنها وهناك من مازال في حيرة وتساؤل كيف يتفق موقفه السابق وقناعته مع ما يفرضه الواقع السياسي المصري عليه الآن من متغيرات .. كيف كان مثلاً ضد تحرك الشارع الذي رأى فيه مبكراً تمكيناً للإخوان والآن هو معه ضد الإخوان بعد ما أثرت سياساتهم على حياته سلباً

فإذا ما تحدثنا اليوم عن مجموعتين أو أكثر لكل منهم رؤية وقناعة وتحليل لما حدث في يناير 2011 والآن هم يواجهون خطر حقيقي على الدولة المصرية لا ينكره إلا غافل .. لا يصح أن نطلب من كل مجموعة أن تتنازل عن قناعاتها كشرط مبدأي حتى يمكن الوصول لحل لإنقاذ الوطن .. بصرف النظر عن قناعة كل مجموعة هل 25 يناير كانت ثورة شعبية أم مصنوعة أم إنقلاب إخواني أم ثورة إسلامية مباركة فهناك واقع الآن .. واقع ملموس أن الدولة المصرية يتسارع انهيارها وتواجه أخطار حقيقية متعددة .. اليوم هناك متغير جديد .. لحظة جديدة لتقرير المصير تتأرجح ما بين أبيض وأسود جديدين تماماً ومختلفين عما كان عليه الإختيار في 2011

إذا ما أرادت المعارضة أن تكسب أرضية فعليها أن تكون أكثر جرأة ووضوحاً في خطابها وأن لا تطلب من الناس على اختلاف قناعاتهم أن يغيروها بل أن يحتفظوا بها ولكن ينظروا حولهم أين هم الآن وإلى أين سيصلون ببلدهم أو أين يريدون أن يصلوا بها .. ما كان قد كان وأوان الحساب سيأتي حتماً وسيتحمل المسئول عما وصلت إليه مصر الآن مسئوليته أمام التاريخ وأمام أجيال قادمة ولكن الأهم الآن هو الفعل .. كيف يمكن للمصريين أن ينجوا ببلدهم مما وصلت إليه من وضع مأساوي ينبيء بأكثر من كارثة قادمة  

احتفظ بقناعاتك كما هي فهي جزء ممن تكون أو غيٍرها إن شئت فلك وحدك هذا الحق ولا أحد ينكر عليك مصريتك ولا ينتقص من وطنيتك أياً كانت رؤيتك .. المهم هو شيئان .. أن تعترف بالخطأ إن اكتشفت أنك قد أخطأت في رأيك وأن تحاول أن تكون فاعلاً في وقت عصيب يمر ببلدك .. وعلينا جميعاً أن ندرك أن هناك خلافات عميقة قائمة ولن تختفي قريباً وكلما ظهر من يقول مثلاً المجد لعاصري اللمون فحتماً سيجد من يرد عليه باللعنة على عاصري اللمون .. لا بأس أن تختلف أذواقنا بين محب للمون وكاره له فالأذواق ستظل تختلف ونحن جميعاً لا نسعى إلى دولة الرأي الواحد بأي شكل من الأشكال .. فلتحب اللمون أو تكرهه .. المهم ماذا نحن فاعلون اليوم وغداً .. إلى أين نحن ذاهبون !؟






1 comment:

  1. الله يرحم نجيب محفوظ حين شخص الحالة العاطفية المصرية ..... آفة حارتنا النسيان
    يا حرفوشة، آفة حارتنا النفاق ... آفة حارتنا السذاجة ... آفة حارتنا الفهلوة ... آفة حارتنا الغباء ( السياسي و المجتمعي ) ... آفة حارتنا النسيان .... رحم الله الجنرال العظيم، شخص المرض و العلة، و قال الشعب المصري غير مستعد للديموقراطية ... الديموقراطية ترف، بذخ، سخاء، ولاء، و نحن لا نملك غير النسيان ...

    تحياتي ...
    ،

    ReplyDelete